Wednesday, June 04, 2008

اللوحات السوداء


اللوحات السوداء هي مجموعة من أكثر اللوحات قتامة وكآبة في تاريخ الفن، رسمها جويا وهو في عزلة اختيارية بالقرب من نهاية حياته.



وفرانسيسكو دي جويا (1746 – 1828) هو فنان أسباني، يعتبر آخر أساتذة المدرسة القديمة في الرسم، وأول المحدّثين أيضا، وقد كانت أعماله مصدر إلهام لكثير من فناني الأجيال التالية مثل بيكاسو ومانيه.

وعندما اجتاحت القوات الفرنسية أسبانيا واحتلتها أثناء الحروب النابليونية، تأثر جويا كثيرا وانهمك في رسم مجموعة من اللوحات التي تعرف الآن بلوحات كوارث الحرب، وهي مجموعة من حوالي ثمانين لوحة تصور بشاعة الحرب وقسوتها.
كان ذلك أثناء الحرب التي تعرف بحرب شبه الجزيرة Peninsular War، والتي استمرت من 1808 وحتى 1814، واشتعلت الحرب في الشوارع بين الغزاة وقوات المقاومة، وارتكب الغزاة العديد من المذابح الدموية، وصارت رائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان.
رأى جويا أسبانيا الجميلة تتهاوى وتصير إلى خراب، وقد جعله هذا يميل إلى التشاؤم والسوداوية، وأصبح حزينا وكئيبا جدا.
عام 1819، وفي سن الثانية والسبعين، انتقل جويا إلى منزل خارج مدريد لينعزل فيه وحيدا، وكان جويا قد أصبح أصم وعصبيا جدا، وقد زادت الحرب التي مرّت بها أسبانيا من حالته النفسية سوءا، حيث رأى فيها الخوف والذعر والقلق والأرق وصارت تنتابه نوبات من الهيستيريا. ووحيدا في المنزل مع مخاوفه وصممه، أبدع جويا أربع عشرة لوحة مفزعة أصبحت تعرف الآن باللوحات السوداء.


ربما كانت أبرز هذه اللوحات هي زحل يلتهم ابنه Saturn Devouring His Son، والتي تصوّر الإله الروماني زحل وهو يلتهم ابنه على إثر نبوءة تقول أن أحد أبناءه سيهزمه. أبدع جويا في تصوير وحشية الحدث، وجعله على خلفية سوداء مقبضة. رأس ابن زحل وأطرافه مخلوعة والدم يغطى مكانها، بينما تبرز عينا زحل إلى الخارج وكأنه أصيب بالجنون، وأصابعه الصلبة تنغرز في لحم ابنه، ولا توجد حركة بجسم الولد مما يوحي بأنه قد مات بالفعل. وتشير هذه اللوحة إلى الاضطرابات الأهلية التي كانت تسود أسبانيا. كانت أسبانيا تأكل أبناءها كما فعل زحل.


لوحة شهيرة أخرى هي لوحة سبت الساحرات Witches' Sabbath، وهي لوحة كئيبة تبدو كنذير شؤم، حيث يشير إلى الاعتقاد القديم بأن يوم السبت كانت تخصصه الساحرات للاجتماع معا بالشيطان الذي يظهر لهم على شكل جدي.


ليست كل اللوحات السوداء تتميز بمحدودية الألوان كالمثالين السابقين، فهناك مثلا لوحة القتال بالهراوات Fight With Clubs، والتي تبيّن براعة جويا في مزج ظلال مختلفة من الأحمر والأزرق. وتظهر اللوحة رجلين يتعاركان بالهراوات في أحد السهول، ولا يبدو أن لأي منهما فرصة للفكاك من الآخر لأن قدمي كل منهما عالقة عميقا في الوحل. يبدو لي الرجلان رقيقي الحال وفي ملابس رثة، بينما المكان مقفر حولهما، فعلام هذا العراك المؤذي عديم الجدوى؟


وهذه اللوحة بعنوان رجل أصم Deaf man، حيث تصور رجلا طاعنا في السن وهناك مخلوق قبيح يبدو كشيطان يصرخ في أذنه. وأغلب الظن أن هذه اللوحة تصور جويا نفسه الذي أصيب بالصمم ولم يعد يسمع شيئا. ولا يبدو على الرجل أنه سمع شيئا بالرغم من صراخ المخلوق الملاصق لأذنه.


وفي لوحة رجل عجوز يأكل Old man eating، والتي رسمها لغرفة الطعام بمنزله، يعبر جويا في اللوحة عن وحدته وانعزاله، حتى أنه لا يجد من يتناول معه الطعام سوى هذا المخلوق ذو الجمجمة الخالية من العينين، والذي يشير إلى الموت الذي ينتظره.

ترى أي عذاب وألم كان يشعر به جويا حتى تخرج لوحاته بهذا الشكل؟ ولأنه يحمل روح الفنان فقد خلد لنا عذابه هذا ليظل ممتدا وخالدا على مدى مئات السنين.

أترككم الآن مع بعض اللوحات السوداء الأخرى.



امرأتان


أزموديا


الأقدار


رجال يقرءون

35 comments:

Anonymous said...

thanks for introducing me to these paintings

Makine

رضوى said...

شكرا على المعلوملت دى عن جويا
بس لوحة زحل يأكل ابنه أنا شفتها فى لقطة فى فيلم قبل كده بس مش فاكرة فين
يللا خير
لوحة سبت الساحرات زى ما تكون مش تبع المجموعة دى و حاسة ان أسلوب الرسم و التلوين فيها غير باقى اللوحات, صح و لا لأ؟

Anonymous said...

شىء جميل والله يا ميشيل إنك مهتم بالفن الكلاسيكى، أتمنى إن ده يأثر على أعمالك الأدبية (متهيألى إنه أثر فيها فعلا، بدلالة كلامك عن شغل جويا الكئيب بعد قصة "الغراب".. بالمناسبة دى ممتازة فعلا).ـ
بس ملحوظة صغيرة ياريت ماتزعلكش:
كتبتَ "كان جويا قد أصبح أصمًّا" وصوابها "أصبح أصمَّ" لأنها صفة على وزن "أفعل" فتُمنع من الصرف.ـ وكذلك "تظهر اللوحة رجلان" وصوابها "تظهر اللوحة رجلين" لأنها مفعول به.ـ
طبعا الكلام ده لا يفسد للود قضية!ـ

Unknown said...

مرة واحد صاحبى قالى ان اغلب الادباء والفنانين بيبقوا عصبينى ولهم افعال غريبة
وكل يوم الكلمة دى بتثبت صدقها

كل مرة بدخل مدونتك بخرج بكمية معلومات

كنت ممكن اقضى يوم كامل عشان الاقيها

Zianour said...

د. ميشيل: أنا كنت قرات عنه زمااان ملف في مجلة العربي وبصراحة من يومها وانا متأثرة بيه لانه بيعبر عن اسوأ الهواجس اللي ممكن تهاجم انسان وكمان عن الوحدة والمرحلة الاخيرة ف العمر
شكرا ليك وهو صادم بس يستحق التأمل

Tafaology said...

جميلة مواضيعك يا دكتور

كنت أحب أن يستمر تعليقك على باقى اللوحات

ولكنه الوقت بالتأكيد ...

بالمناسبة ... أنا متفق مع رأى رضوى

African Doctor said...

أنت هاتخلليني مدمن لمدونتك :)
كان نفسي تعلق على باقي اللوحات
لوحى الرجل الأصمّ مفزعة بالنسبة لي ، إحساس العزلة و الغموض مع كآبة الصمت.
أشكرك على التدوينة الرائعة

bluestone said...
This comment has been removed by the author.
bluestone said...

اللوحات كلها اصابتني بحالة كآبة وشبه فزع !!
فعلا عبقري الفنان اللي يقدر ينقل احساسه الداخلي في لوحة تخترق اللي بيشوفها للدرجة دي !!

كان نفسي تعلق على باقي اللوحات
التعليق مفيد جدا بالنسبة في فهم تفاصيل كل لوحة

مش عارفة اكثر اللوحات فزعا بالنسبة يمكن زحل يلتهم ابنه لانها دموية جدا
والشخصين اللي بيتعاركوا بالهراوات
احساس الشخص انه لافرار امامه من مصير مؤلم احساس مخيف جدا بالنسبة لي

على فكرة انا انزعجت جدا من القصة في البوست اللي فات بتاع نعيق الغراب
انت كتبتها بوصف قوي جدا لدرجة انها نقلت لي الصورة العقلية اثناء القراية
وبعدين قعدت احلم بالغراب الضخم لمدة يومين في صورة كوابيس مرة غراب ومرة خفاش !!!!
الله يسامحك بقى !! :)
بس برافو لانها كانت مكتوبة حلو قوي

النوع ده من الكتابة مش منتشر قوي في الكتابة العربية

Michel Hanna said...

مكين: العفو يا باشا :)

Michel Hanna said...

رضوى: ما اعتقد انها جت في فيلم. يمكن شفتيها في واحد من أفلام السندباد القديمة اللي السيكلوب كان بياكل فيها رفقاء سندباد.
لا مش حاسس ان سبت الساحرات مختلفة ولا حاجة، هي اللي حاسس انها مختلفة فعلا لوحة أزموديا.

Michel Hanna said...

عبد الرحمن: شكرا على التصحيح، أنا صححت الكلمات الخطأ في التدوينة.
مش ممكن أزعل طبعا من التصحيح، بالعكس، أنا يمكن زعلان من نفسي علشان الحاجات دي عدت عليّ مع أني باراجع كذا مرة قبل النشر.

Michel Hanna said...

عزيزي واحد مش فاهم حاجة: أنا مش فاهم العلاقة بين العصبيةوالمعلومات ؟ :)

Michel Hanna said...

زيانور: ده ليه لوحات كمان عن فظائع الحرب . لوحات فظيعة جدا.

Michel Hanna said...

تفاؤلجي: وأنا مش متفق!
صباح الفل!

Michel Hanna said...

أفريكانو: يا دكتورنا العزيز ده أنا اللي مدمن لكتاباتك الرائعة.
فعلا لوحة الأصم هي الأوقع على النفس.
تخيل ان وراك وحش بيصرخ في ودانك وانت مش سامعه ولا حاسس بيه.
الصمم هو وحدة رهيبة قاتلة.

Michel Hanna said...

بلوستون: شكرا جزيلا ليكي.
وباعتذر عن الكوابيس! ما كنتش أقصد صدقيني!
قصة نعيق الغراب دي من القصص اللي بتتفرض على الواحد فرضا كأنها نوع من الإملاء.
أنا من كذا سنة كده دخلت مكان مهجور فيه خشب زي الشقة بتاعة بطل القصة، وبعدين كان فيه حمامة قاعدة على عش ولما شافتني اتفزعت وطارت في وشّي، وفي اللجظة دي القصة اتكتبت في دماغي كأنها دخلت فيها بحقنة! وفضلت محتفظ بيها في دماغي فترة لغاية ما فرغتها ع الورق. هي الأحداث بتاعتها اللي فرضت نفسها، وعموما أنا باعتذر مرة تانية ولو أني على هذا الأساس غير مسئول عن اللي حصل للبطل :)

Anonymous said...

واضح ان الاخ جويا كان معلى دماغه بصنف جديد كان لسه نازل اسبانيا اسمه الزغلول الاسود..اية يا دكتور ميشيل هو احنا ناقصين كابة..ما كفاية علينا احمد عز و اعوانه

H. M. H. said...

مقال يثير القشعريرة، ويجعل المرء يفكر في أعمق ما يوجد على الحافة بين الخير والشر. لو كان لي أن أسم هذا الموضوع، فسأسمه بـ "منتصف الليل في حدائق الخير والشر".
هذه اللوحات سوداء فعلاً، لا للكآبة القاتلة فيها، بل للشر الذي يكاد ينطق فيها. قيل أن تصوير القُبح يتطلب عبقرية مماثلة للعبقرية التي يتطلبها تصوير الجمال، وعبقرية فرانشيكو دي غويا فذة حقاً في هذه اللوحات السوداء التي عرضتها يا ميشيل.
"زحل يلتهم ابنه" من أشهر اللوحات العالمية وأكثرها ترويعاً على الإطلاق، لكنني أعتقد أن ما يفوقها إثارة للنفور والرعب لوحة "رجال يقرأون"، فحتى الآن، لم أرَ من صور القراءة باعتبارها فعلاً مظلماً بربرياً شريراً كما فعل غويا بألوانه المتقشفة. في لوحته "رجل أصم" يظهر همس الموت صادماً ومخيفاً، وفي لوحته "رجل عجوز يأكل" تظهر عزلته ووحدته، إنه رجلٌ عجوز يعيش مع الموت ويؤاكله!
"أزموديا" و"سبت الساحرات" و"القتال بالهراوات" تختلف عن بقية اللوحات السوداء في أن غويا لم يصل فيها بعد إلى التقشف المطلق في استخدام الألوان، والتركيز على قيمة التشويه والترويع المطلق!
هل يكفي المقال لكي أقول، شكراً على موضوعٍ يحرك الساكن كهذا؟
تحياتي القلبية يا دكتور...

Anonymous said...

something in ur posts makes me identify and sympathize with u especially ur excerpt from Amal Donqol's poem and ur choice of Goya's paintings. i feel there is something u want to say but u r afraid

Michel Hanna said...

أحمد الكيلاني: الكآبة شعور جميل ليه ناسه برضه

Michel Hanna said...

hmh: فعلا تصوير القبح يتطلب عبقرية شديدة. شفت كتاب رائع من كام يوم اسمه On Ugliness بيتكلم عن القبح في اللوحات الفنية
كنت هاتجنن عليه لولا انه بـ 350 جنيه فقط لا غير!
شكرا ليكي على التأملات الجميلة وتقبلي تحياتي.

Michel Hanna said...

المجهول: يا عم ما أنا باقول كل حاجة أهو ومش مخبي حاجة :)

Michel Hanna said...

المجهول: يا عم ما أنا باقول كل حاجة أهو ومش مخبي حاجة :)

H. M. H. said...

350 جنيه فقط لا غير!
مش مشكلة يا دكتور!
نعمل جمعية في المدونة لشراء الكتاب. كُل من ساهم بتعليق ينبغي أن يساهم في الجمعية بمبلغ يتراوح بين خمسة جنيهات مصرية وعشرة جنيهات مصرية، ويكتسب لنفسه حق استعارة الكتاب وتقليبه لساعة.
تحياتي القلبية..

Dina El Hawary (dido's) said...

mmmm ... شكراً جداً لكل المعلومات دي
والبلوج رائع كله بجد

Michel Hanna said...

hmh: تقليبه؟
لا كله إلا تقليبه!
عندي حاجة غريبة اني ما باحبش حد يلمس كتاب من كتبي!
معظم الناس بتتعامل مع الكتاب بعنف وبتبهدل الصفحات وتثنيها وهي بتقلب. ده غير ان أطراف زوايا الكتاب بتنثني. أنا كل كتبي اللي قريتها ومحتفظ بيها كأن ما حدش لمسها خالص وفي حالتها كما خرجت من المطبعة
علشان كده ما باسلفش حد أي كتاب ومش باتكسف لما أقول لحد كده، بسبب تجارب سابقة سيئة مع عمليات التسليف.

Michel Hanna said...

دينا الهواري: ألف شكر ليكي.

سالي محمد said...

عجبنى جدا عرضك للوح والتعليق بصراحه كان نفسي البوست ميخلصسش

Michel Hanna said...

ألف شكر يا سالي
وإن شاء الله أحاول أحلل لوحات تانية في بوستات جاية

Anonymous said...

دي مش سبت الساحرات لجويا
اللوحه الاصليه هنا
http://en.wikipedia.org/wiki/Image:Witches.jpg
خالص تحياتي
عمرو

Michel Hanna said...

أعتقد أن اللوحتين لجويا
لكني لست متأكدا

Ahmad Tareq said...

د . ميشيل
دمت بالود
أعود لاطالع هذا الموضوع مجددا
وقد كان الموضوع الاول الذي أطالعه لك منذ زمن
فشدتني مدونتك التي عبأتها بإبداعاتك الرائعه
أردت فقط أن اسجل اعجابي

Michel Hanna said...

شكرا جزيلا يا عزيزي :)

Unknown said...

أحب جويا منذ نعومة أظفاري ..وقد أخافتني لوحة الرجل الذي يلتهم أطفالة في طفولتي كثيرا..
لكني أراها جميلة الآن فأنا من رسامين اللوحات السواء منذ مراهقتي